في 12 فبراير عام 1955 شهدت بلدة تورا - تام الواقعة في جنوب كازاخستان وصول أول فريق من المهندسين العسكريين بدأ فورا في بناء ساحة تجارب صاروخية جديدة تابعة لوزارة الدفاع السوفيتية في وسط السهب الكازاخي، وهي
تعرف اليوم باسم قاعدة "بايكونور" الفضائية
وتعين على المهندسين والجنود المرافقين لهم ان ينجزوا مهمة شاقة. ويكفي ان نشير إلى ان شق القناة المطلوبة لاستيعاب اللهب عند انطلاق الصاروخ تطلب استخراج مليون متر مكعب من التربة. ومع ذلك أنجزوا المهمة على جناح السرعه ووضع أول صاروخ على منصة الإطلق في 6 مايو1957
وبعد انطلاق أول قمر صناعي من هذه القاعدة أطلق عليها اسم "المطار الفضائي". أما "بايكونور" فإنه اسم مدينة بايكونور التي تبعد حوالي 350 كيلومترا شمال محطة القطار تورا تام التي أنشئت حولها القاعدة الحقيقية لإطلاق الصواريخ. وأطلق على القاعدة هذا الاسم بغية تضليل استخبارات "العدو المحتمل
والآن تعتبر قاعدة بايكونور أكبر قاعدة لإطلاق الصواريخ التي تحمل الأقمار الصناعية إلى الفضاء في العالم. وتستأجرها روسيا حتى عام 2050 بمقتضى الاتفاقية التي وقعتها روسيا وكازاخستان في 9 يناير 2004
وتشهد قاعدة بايكونور تطورا. وحسب قول مدير وكالة الفضاء الروسية فإن عددا من الدول، وخصوصا روسيا وكازاخستان والولايات المتحدة وأوكرانيا، تجد لها مصلحة في تطوير هذا المطار الفضائي. وعلى سبيل المثال تملك كازاخستان برنامجا فضائيا طموحا. وإذا تم تنفيذ هذا البرنامج فسوف تصبح كازاخستان إحدى الدول الفضائية الرائدة في العالم كما قال مدير وكالة الفضاء الروسية
أما بالنسبة للولايات المتحدة فإنها تجد لها مصلحة في إطلاق أقمار صناعية تابعة لها من قاعدة تقع في هذه المنطقة بالذات
لأسباب اقتصادية. وليس هذا فحسب، بل تجد الولايات المتحدة لها مصلحة في الاستعانة بالصواريخ الروسية المخصصة
لحمل الأقمار الصناعية والتي تنطلق من هذه القاعدة
وبالتالي فإن ما أنشئ من أجل تجريب صواريخ ذات رؤوس نووية مدمرة تحول في النهاية إلى أهم ميناء فضائي في العالم
لقد ظهرت حاجة ماسة إلى بناء ساحة جديدة للتجارب بعد شروع الاتحاد السوفيتي بتصميم وتصنيع الصواريخ البالستية العابرة للقارات. إذ لم تعد ساحة كابوستين يار القديمة الواقعة في منطقة مأهولة بالسكان تصلح للتجارب على الصواريخ الجديدة.
وفضلا عن ذلك رأى العلماء أنه كان من الأفضل نقل ساحة تجارب الصواريخ أقصى ما يمكن إلى الجنوب لان قوة جاذبية الأرض تنخفض مع الاقتراب من خط الاستواء مما يتيح زيادة حمولة الصواريخ وتيسير إطلاقها
وفي سياق البحث عن موقع مناسب لساحة التجارب الجديدة وقع الخيار على منطقة قريبة من محطة السكة الحديد تورا - تام استوفت الشروط الفنية أفضل من أي مكان آخر، وهي بادية خالية عمليا من السكان والمزارع. ولكن ثمن المسائل الاقتصادية والفنية كان غاليا جدا من حيث الظروف المناخية القاسية. كانت درجات الحرارة هناك تتراوح بين 40 درجة مئوية تحت الصفر في الشتاء و45 درجة مئوية فوق الصفر في الصيف بالإضافة إلى رياح شديدة في الشتاء وعواصف ترابية في الصيف.
وفي الوقت نفسه بدأ مع تجهيز ساحة التجارب هناك بناء مدينة أطلق عليها "لينينسك". وفي يوليو عام 1955 بدأ تشييد أول منصة لإطلاق الصواريخ، وهي لا تزال تستعمل حتى الآن. واعتبارا من عام 1957 بدأت هناك عمليات إطلاق تجريبية لصواريخ "ر-7". يذكر أن العمليتين الأولى والثانية انتهتا بالفشل ، ولكن الصاروخ الثالث انطلق بنجاح وبلغ قسمه الرأسي في 21 أغسطس 1957 هدفه المحدد في ميدان التجارب بشبه جزيرة كامتشاتكا (الشرق الأقصى الروسي).
وبنقله أول قمر صناعي إلى مدار حول الأرض في الرابع من أكتوبر 1957 دشن صاروخ "ر-7" الذي انطلق من قاعدة تورا - تام، عصرا فضائيا من تاريخ البشرية. واستخدم الصاروخ من نفس الطراز في الثاني عشر من أبريل 1961 لإطلاق يوري غاغارين إلى الفضاء الكوني.
وحينئذ سمعت البشرية لأول مرة عبارة "قاعدة بايكونور الفضائية". وجدير بالذكر ان بلدة بايكونور الحقيقية كانت واقعة على مسافة عدة مئات من الكيلومترات شمالي موقع الإطلاق حيث بنيت ساحة تجارب "كاذبة" بغية تضليل العدو المحتمل وصرف نظره عن القاعدة الفضائية الحقيقية. ولم يتم تغيير اسم مدينة لينينسك ببايكونور إلا في عام 1995 بعد زوال الاتحاد السوفيتي.
وفي الوقت الراهن تستأجر روسيا قاعدة "بايكونور" الفضائية والمدينة التابعة لها من كازاخستان بـ115 مليون دولار في السنة بموجب معاهدة تنتهي مدة سريانها في عام 2050. وتأتي قاعدة "بايكونور" في عداد القواعد الفضائية الثلاث في العالم (بالإضافة إلى رأس كانافرال في الولايات المتحدة وقاعدة جيوكوان في الصين) التي انطلقت منها رحلات فضائية مأهولة.
وكانت الأغراض العسكرية تغلب في الفترة الأولى من استخدام ساحة التجارب ولكن في الآونة الأخيرة سلم العسكريون "بايكونور" إلى وكالة الفضاء الروسية، وهم يكتفون بتقديم المساعدة أثناء إطلاق الأقمار الصناعية ذات المهمات الدفاعية. أما عمليات الإطلاق التجريبية للصواريخ البالستية العابرة للقارات فتجري حاليا من قاعدة "بليسيتسك" الروسية الواقعة بمقاطعة أرخانغليسك.
وبالرغم من العلاقات الودية مع كازاخستان والموقع الجغرافي المناسب لقاعدة "بايكونور" الفضائية ترى روسيا ضرورة نقل موقع إطلاق الرحلات المأهولة إلى قاعدة فضائية جديدة يطلق عليها اسم "فوستوتشني". ويجري إنشاؤها في مقاطعة آمور في الشرق الأقصى الروسي. ومن المتوقع أن تدخل القاعدة حيز العمل في عام 2016. ومع انقضاء أجل معاهدة استئجار "بايكونور" يراد نقل عمليات إطلاق كل المركبات الفضائية الروسية إلى قاعدة "فوستوتشني".
ومن جانب آخر، تترك فترة سريان مفعول المعاهدة المعقودة مع كازاخستان مجالا رحبا للمناورة ولذا فليس في مقدور أحد أن يتنبأ بمصير "بايكونور" في عالمنا المتغير بسرعة.
أما الآن فتنصرف موسكو تدريجيا من "بايكونور". فقد أدى سحب الوحدات العسكرية من المنطقة إلى تقلص شديد في تدفق السكان من روسيا وانخفضت نسبة السكان الروس في المدينة البالغ عدد سكانها 60 ألف نسمة إلى 30 أو 40 %، وهي مستمرة في الهبوط